سورة إبراهيم - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (إبراهيم)


        


{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)}
اعلم أنه تعالى عاد إلى وصف أحوال الكفار في هذه الآية فقال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَتَ الله كُفْرًا} نزل في أهل مكة حيث أسكنهم الله تعالى حرمه الآمن وجعل عيشهم في السعة وبعث فيهم محمداً صلى الله عليه وسلم فلم يعرفوا قدر هذه النعمة، ثم إنه تعالى حكى عنهم أنواعاً من الأعمال القبيحة.
النوع الأول: قوله: {بَدَّلُواْ نِعْمَتَ الله كُفْرًا} وفيه وجوه:
الأول: يجوز أن يكون بدلوا شكر نعمة الله كفراً، لأنه لما وجب عليهم الشكر بسبب تلك النعمة أتوا بالكفر، فكأنهم غيروا الشكر إلى الكفر وبدلوه تبديلاً.
والثاني: أنهم بدلوا نفس نعمة الله كفراً لأنهم لما كفروا سلب الله تلك النعمة عنهم فبقي الكفر معهم بدلاً من النعمة.
الثالث: أنه تعالى أنعم عليهم بالرسول والقرآن فاختاروا الكفر على الإيمان.
والنوع الثاني: ما حكى الله تعالى عنهم قوله: {وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ البوار} وهو الهلاك يقال رجل بائر وقوم بور، ومنه قوله تعالى: {وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً} [الفتح: 12] وأراد بدار البوار جهنم بدليل أنه فسرها بجهنم فقال: {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ القرار} أي المقر وهو مصدر سمي به.
النوع الثالث: من أعمالهم القبيحة قوله: {وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَادًا لّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم بدلوا نعمة الله كفراً ذكر أنهم بعد أن كفروا بالله جعلوا له أنداداً، والمراد من هذا الجعل الحكم والاعتقاد والقول، والمراد في الأنداد الأشباه والشركاء، وهذا الشريك يحتمل وجوهاً: أحدها: أنهم جعلوا للأصنام حظاً فيما أنعم الله به عليهم نحو قولهم هذا لله وهذا لشركائنا.
وثانيها: أنهم شركوا بين الأصنام وبين خالق العالم في العبودية.
وثالثها: أنهم كانوا يصرحون بإثبات الشركاء لله وهو قولهم في الحج لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك.
المسألة الثانية: قرأ ابن كثير وأبو عمرو {لِيُضِلُّواْ} بفتح الياء من ضل يضل والباقون بضم الياء من أضل غيره يضل.
المسألة الثالثة: اللام في قوله: {لّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ} لام العاقبة لأن عبادة الأوثان سبب يؤدي إلى الضلال ويحتمل أن تكون لام كي، أي الذين اتخذوا الوثن كي يضلوا غيرهم هذا إذا قرئ بالضم فإنه يحتمل الوجهين، وإذا قرئ بالنصب فلا يحتمل إلا لام العاقبة لأنهم لم يريدوا ضلال أنفسهم. وتحقيق القول في لام العاقبة أن المقصود من الشيء لا يحصل إلا في آخر المراتب كما قيل أول الفكر آخر العمل. وكل ما حصل في العاقبة كان شبيهاً بالأمر المقصود في هذا المعنى، والمشابهة أحد الأمور المصححة لحسن المجاز، فلهذا السبب حسن ذكر اللام في العاقبة، ولما حكى الله تعالى عنهم هذه الأنواع الثلاثة من الأعمال القبيحة قال: {قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار} والمراد أن حال الكافر في الدنيا كيف كانت، فإنها بالنسبة إلى ما سيصل إليه من العقاب في الآخرة تمتع ونعيم، فلهذا المعنى قال: {قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار} وأيضاً إن هذا الخطاب مع الذين حكى الله عنهم أنهم بدلوا نعمة الله كفراً، فأولئك كانوا في الدنيا في نعم كثيرة فلا جرم حسن قوله تعالى: {قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار} وهذا الأمر يسمى أمر التهديد ونظيره قوله تعالى: {اعملوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] وكقوله: {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أصحاب النار} [الزمر: 8].


{قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31)}
اعلم أنه تعالى لما أمر الكافرين على سبيل التهديد والوعيد بالتمتع بنعيم الدنيا، أمر المؤمنين في هذه الآية بترك التمتع بالدنيا والمبالغة في المجاهدة بالنفس والمال، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ حمزة والكسائي {لِّعِبَادِىَ} بسكون الياء، والباقون: بفتح الياء لالتقاء الساكنين فحرك إلى النصب.
المسألة الثانية: في قوله: {يُقِيمُواْ} وجهان:
الأول: يجوز أن يكون جواباً لأمر محذوف هو المقول تقديره: قل لعبادي الذين آمنوا أقيموا الصلاة وأنفقوا يقيموا الصلاة وينفقوا.
الثاني: يجوز أن يكون هو أمراً مقولاً محذوفاً منه لام الأمر، أي ليقيموا كقولك: قل لزيد ليضرب عمراً وإنما جاز حذف اللام، لأن قوله: {قُلْ} عوض منه ولو قيل ابتداء يقيموا الصلاة لم يجز.
المسألة الثالثة: أن الإنسان بعد الفراغ من الإيمان لا قدرة له على التصرف في شيء إلا في نفسه أو في ماله.
أما النفس فيجب شغلها بخدمة المعبود في الصلاة وأما المال فيجب صرفه إلى البذل في طاعة الله تعالى. فهذه الثلاثة هي الطاعات المعتبرة، وهي الإيمان والصلاة والزكاة وتمام ما يجب أن يقال في هذه الأمور الثلاثة ذكرناه في قوله تعالى: {الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب وَيُقِيمُونَ الصلاة وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ} [البقرة: 3].
المسألة الرابعة: قالت المعتزلة: الآية تدل على أن الرزق لا يكون حراماً، لأن الآية دلت على أن الانفاق من الرزق ممدوح، ولا شيء من الانفاق من الحرام بممدوح فينتج أن الرزق ليس بحرام. وقد مر تقرير هذا الكلام مراراً.
المسألة الخامسة: في انتصاب قوله: {سِرّاً وَعَلاَنِيَةً} وجوه:
أحدها: أن يكون على الحال أي ذوي سر وعلانية بمعنى مسرين ومعلنين.
وثانيها: على الظرف أي وقت سر وعلانية.
وثالثها: على المصدر أي انفاق سر وانفاق علانية والمراد إخفاء التطوع وإعلان الواجب.
واعلم أنه تعالى لما أمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة قال: {مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خلال} قال أبو عبيدة: البيع هاهنا الفداء والخلال المخالة، وهو مصدر من خاللت خلالاً ومخالة، وهي المصادقة.
قال مقاتل: إنما هو يوم لا بيع فيه ولا شراء ولا مخالة ولا قرابة، فكأنه تعالى يقول: أنفقوا أموالكم في الدنيا حتى تجدوا ثواب ذلك الإنفاق في مثل هذا اليوم الذي لا تحصل فيه مبايعة ولا مخالة. ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة البقرة: {لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شفاعة} [البقرة: 254].
فإن قيل: كيف نفى المخالة في هاتين الآيتين، مع أنه تعالى أثبتها في قوله: {الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين} [الزخرف: 67].
قلنا: الآية الدالة على نفي المخالة محمولة على نفي المخالة بسبب ميل الطبيعة ورغبة النفس، والآية الدالة على ثبوت المخالة محمولة على حصول المخالة الحاصلة بسبب عبودية الله تعالى ومحبة الله تعالى، والله أعلم.


{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)}
اعلم أنه لما أطال الكلام في وصف أحوال السعداء وأحوال الأشقياء، وكان العمدة العظمى والمنزلة الكبرى في حصول السعادات معرفة الله تعالى بذاته وبصفاته، وفي حصول الشقاوة فقدان هذه المعرفة، لا جرم ختم الله تعالى وصف أحوال السعداء والأشقياء بالدلائل الدالة على وجود الصانع وكمال علمه وقدرته، وذكر هاهنا عشرة أنواع من الدلائل. أولها: خلق السموات.
وثانيها: خلق الأرض، وإليهما الإشارة بقوله تعالى: {الله الذي خَلَقَ السموات والأرض}.
وثالثها: {وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ}.
ورابعها: قوله: {وَسَخَّرَ لَّكُمُ الفلك لِتَجْرِىَ فِي البحر بِأَمْرِهِ}.
وخامسها: قوله: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الأنهار}.
وسادسها.
وسابعها: قوله: {وَسَخَّر لَكُمُ الشمس والقمر دآئِبَينِ}.
وثامنها.
وتاسعها: قوله: {وَسَخَّر لَكُمُ الليل والنهار}.
وعاشرها: قوله: {وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} وهذه الدلائل العشرة قد مر ذكرها في هذا الكتاب وتقريرها وتفسيرها مراراً وأطواراً ولا بأس بأن نذكر هاهنا بعض الفوائد. فاعلم أن قوله تعالى: {الله} مبتدأ، وقوله: {الذى خَلَقَ} خبره. ثم إنه تعالى بدأ بذكر خلق السموات والأرض، وقد ذكرنا في هذا الكتاب أن السماء والأرض من كم وجه تدل على وجود الصانع الحكيم، وإنما بدأ بذكرهما هاهنا لأنهما هما الأصلان اللذان يتفرع عليهما سائر الأدلة المذكورة بعد ذلك فإنه قال بعده: {وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ} وفيه مباحث:
البحث الأول: لولا السماء لم يصح إنزال الماء منها ولولا الأرض لم يوجد ما يستقر الماء فيه، فظهر أنه لابد من وجودهما حتى يحصل هذا المقصود وهذا المطلوب.
البحث الثاني: قوله: {وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً} وفيه قولان: الأول: أن الماء نزل من السحاب وسمي السحاب سماء اشتقاقاً من السمو، وهو الارتفاع.
والثاني: أنه تعالى أنزله من نفس السماء وهذا بعيد، لأن الإنسان ربما كان واقفاً على قلة جبل عال ويرى الغيم أسفل منه فإذا نزل من ذلك الجبل يرى ذلك الغيم ماطراً عليهم وإذا كان هذا أمراً مشاهداً بالبصر كان النزاع فيه باطلاً.
البحث الثالث: قال قوم: إنه تعالى أخرج هذه الثمرات بواسطة هذا الماء المنزل من السماء على سبيل العادة، وذلك لأن في هذا المعنى مصلحة للمكلفين، لأنهم إذا علموا أن هذه المنافع القليلة يجب أن تتحمل في تحصيلها المشاق والمتاعب، فالمنافع العظيمة الدائمة في الدار الآخرة أولى أن تتحمل المشاق في طلبها، وإذا كان المرء يترك الراحة واللذات طلباً لهذه الخيرات الحقيرة، فبأن يترك اللذات الدنيوية ليفوز بثواب الله تعالى ويتخلص عن عقابه أولى. ولهذا السبب لما زال التكليف في الآخرة أنال الله تعالى كل نفس مشتهاها من غير تعب ولا نصب، هذا قول المتكلمين.
وقال قوم آخرون: إنه تعالى يحدث الثمار والزروع بواسطة هذا الماء النازل من السماء، والمسألة كلامية محضة، وقد ذكرناه في سورة البقرة.
البحث الرابع: قال أبو مسلم: لفظ {الثمرات} يقع في الأغلب على ما يحصل على الأشجار، ويقع أيضاً على الزروع والنبات، كقوله تعالى: {كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَءَاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141].
البحث الخامس: قال تعالى: {فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ} والمراد أنه تعالى إنما أخرج هذه الثمرات لأجل أن تكون رزقاً لنا، والمقصود أنه تعالى قصد بتخليق هذه الثمرات إيصال الخير والمنفعة إلى المكلفين، لأن الإحسان لا يكون إحساناً إلا إذا قصد المحسن بفعله إيصال النفع إلى المحسن إليه.
البحث السادس: قال صاحب الكشاف: قوله: {مِنَ الثمرات} بيان للرزق، أي أخرج به رزقاً هو ثمرات، ويجوز أن يكون من الثمرات مفعول أخرج ورزقاً حال من المفعول أو نصباً على المصدر من أخرج لأنه في معنى رزق، والتقدير: ورزق من الثمرات رزقاً لكم.
فأما الحجة الرابعة: وهي قوله: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الفلك لِتَجْرِىَ فِي البحر بِأَمْرِهِ} ونظيره قوله تعالى: {وَمِنْ ءاياته الجوار فِي البحر كالأعلام} [الشورى: 32] ففيها مباحث:
البحث الأول: أن الانتفاع بما ينبت من الأرض إنما يكمل بوجود الفلك الجاري في البحر، وذلك لأنه تعالى خص كل طرف من أطراف الأرض بنوع آخر من أنعمه حتى أن نعمة هذا الطرف إذا نقلت إلى الجانب الآخر من الأرض وبالعكس كثر الربح في التجارات، ثم إن هذا النقل لا يمكن إلا بسفن البر وهي الجمال أو بسفن البحر وهي الفلك المذكور في هذه الآية.
فإن قيل: ما معنى وسخر لكم الفلك مع أن تركيب السفينة من أعمال العباد؟
قلنا؛ أما على قولنا إن فعل العبد خلق الله تعالى فلا سؤال، وأما على مذهب المعتزلة فقد أجاب القاضي عنه فقال: لولا أنه تعالى خلق الأشجار الصلبة التي منها يمكن تركيب السفن ولولا خلقه للحديد وسائر الآلات ولولا تعريفه العباد كيف يتخذوه ولولا أنه تعالى خلق الماء على صفة السيلان التي باعتبارها يصح جري السفينة، ولولا خلقه تعالى الرياح وخلق الحركات القوية فيها ولولا أنه وسع الأنهار وجعل فيها من العمق ما يجوز جري السفن فيها لما وقع الانتفاع بالسفن فصار لأجل أنه تعالى هو الخالق لهذه الأحوال، وهو المدبر لهذه الأمور والمسخر لها حسنت إضافة السفن إليه.
البحث الثاني: أنه تعالى أضاف ذلك التسخير إلى أمره لأن الملك العظيم قلما يوصف بأنه فعل وإنما يقال فيه إنه أمر بكذا تعظيماً لشأنه، ومنهم من حمله على ظاهر قوله: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَئ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40] وتحقيق هذا الوجه راجع إلى ما ذكرناه.
البحث الثالث: الفلك من الجمادات فتسخيرها مجاز، والمعنى أنه لما كان يجري على وجه الماء كما يشتهيه الملاح صار كأنه حيوان مسخر له.
الحجة الخامسة: قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الأنهار} واعلم أن ماء البحر قلما ينتفع به في الزراعات لا جرم ذكر تعالى إنعامه على الخلق بتفجير الأنهار والعيون حتى ينبعث الماء منها إلى مواضع الزرع والنبات، وأيضاً ماء البحر لا يصلح للشرب، والصالح لهذا المهم هو مياه الأنهار.
الحجة السادسة والسابعة: قوله: {وَسَخَّر لَكُمُ الشمس والقمر دَآئِبَينِ}.
واعلم أن الانتفاع بالشمس والقمر عظيم، وقد ذكره الله تعالى في آيات منها قوله: {وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشمس سِرَاجاً} [نوح: 16] ومنها قوله: {الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: 5] ومنها قوله: {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً} [الفرقان: 61] ومنها قوله: {هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَاء والقمر نُوراً} [يونس: 5] وقوله: {دَآئِبَينِ} معنى الدؤب في اللغة مرور الشيء في العمل على عادة مطردة يقال دأب يدأب دأباً ودؤباً وقد ذكرنا هذا في قوله: {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَبًا} [يوسف: 47] قال المفسرون: قوله: {دآئِبَينِ} معناه يدأبان في سيرهما وإنارتهما وتأثيرهما في إزالة الظلمة وفي إصلاح النبات والحيوان فإن الشمس سلطان النهار والقمر سلطان الليل ولولا الشمس لما حصلت الفصول الأربعة، ولولاها لاختلت مصالح العالم بالكلية وقد ذكرنا منافع الشمس والقمر بالاستقصاء في أول هذا الكتاب.
الحجة الثامنة والتاسعة: قوله: {وَسَخَّر لَكُمُ الشمس والقمر}.
واعلم أن منافعهما مذكورة في القرآن كقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا اليل لِبَاساً * وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً} [النبأ: 10، 11] وقوله: {وهو الذي جَعَلَ لَكُمُ اليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ والنهار مُبْصِراً} [يونس: 67] قال المتكلمون: تسخير الليل والنهار مجاز لأنهما عرضان، والأعراض لا تسخر.
والحجة العاشرة: قوله: {وَآتَاكُم مّن كُلّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} ثم إنه تعالى لما ذكر تلك النعمة العظيمة بين بعد ذلك أنه لم يقتصر عليها، بل أعطى عباده من المنافع والمرادات ما لا يأتي على بعضها التعديد والإحصاء فقال: {وَآتَاكُم مّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} والمفعول محذوف تقديره من كل مسؤول شيئاً، وقرئ: {مِن كُلِّ} بالتنوين و{مَا سَأَلْتُمُوهُ} نفي ومحله نصب على الحال أي آتاكم من جميع ذلك غير سائليه ويجوز أن تكون ما موصولة والتقدير: آتاكم من كل ذلك ما احتجتم إليه ولم تصلح أحوالكم ومعايشكم إلا به، فكأنكم سألتموه أو طلبتموه بلسان الحال، ثم إنه تعالى لما ذكر هذه النعم ختم الكلام بقوله: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَآ} قال الواحدي: النعمة هاهنا اسم أقيم مقام المصدر يقال: أنعم الله عليه، ينعم إنعاماً ونعمة أقيم الاسم مقام الإنعام كقوله: أنفقت عليه إنفاقاً ونفقة بمعنى واحد، ولذلك لم يجمع لأنه في معنى المصدر، ومعنى قوله: {لاَ تُحْصُوهَآ} أي لا تقدرون على تعديد جميعها لكثرتها.
واعلم أن الإنسان إذا أراد أن يعرف أن الوقوف على أقسام نعم الله ممتنع، فعليه أن يتأمل في شيء واحد ليعرف عجز نفسه عنه ونحن نذكر منه مثالين.
المثال الأول: أن الأطباء ذكروا أن الأعصاب قسمان، منها دماغية ومنها نخاعية.
أما الدماغية فإنها سبعة ثم أتعبوا أنفسهم في معرفة الحكم الناشئة من كل واحد من تلك الأرواح السبعة، ثم مما لا شك فيه أن كل واحد من الأرواح السبعة تنقسم إلى شعب كثيرة وكل واحد من تلك الشعب أيضاً إلى شعب دقيقة أدق من الشعر ولكل واحد منها ممر إلى الأعضاء ولو أن شعبة واحدة اختلت إما بسبب الكمية أو بسبب الكيفية أو بسبب الوضع لاختلت مصالح البنية، ثم إن تلك الشعب الدقيقة تكون كثيرة العدد جداً، ولكل واحدة منها حكمة مخصوصة، فإذا نظر الإنسان في هذا المعنى عرف أن الله تعالى بحسب كل شظية من تلك الشظايا العصبية على العبد نعمة عظيمة لو فاتت لعظم الضرر عليه وعرف قطعاً أنه لا سبيل له إلى الوقوق عليها والاطلاع على أحوالها وعند هذا يقطع بصحة قوله تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَآ} وكما اعتبرت هذا في الشظايا العصبية فاعتبر مثله في الشرايين والأوردة، وفي كل واحد من الأعضاء البسيطة والمركبة بحسب الكمية والكيفية والوضع والفعل والإنفعال حتى ترى أقسام هذا الباب بحراً لا ساحل له، وإذا اعتبرت هذا في بدن الإنسان الواحد فاعرف أقسام نعم الله تعالى في نفسه وروحه، فإن عجائب عالم الأرواح أكثر من عجائب عالم الأجساد ثم لما اعتبرت حالة الحيوان الواحد فعند ذلك اعتبر أحوال عالم الأفلاك والكواكب وطبقات العناصر وعجائب البر والبحر والنبات والحيوان وعند هذا تعرف أن عقول جميع الخلائق لو ركبت وجعلت عقلاً واحداً ثم بذلك العقل يتأمل الإنسان في عجائب حكمة الله تعالى في أقل الأشياء لما أدرك منها إلا القليل، فسبحانه تقدس عن أوهام المتوهمين.
المثال الثاني: أنك إذا أخذت اللقمة الواحدة لتضعها في الفم فانظر إلى ما قبلها وإلى ما بعدها أما الأمور التي قبلها: فاعرف أن تلك اللقمة من الخبز لا تتم ولا تكمل إلا إذا كان هذا العالم بكليته قائماً على الوجه الأصوب، لأن الحنطة لابد منها، وأنها لا تنبت إلا معونة الفصول الأربعة، وتركيب الطبائع وظهور الرياح والأمطار، ولا يحصل شيء منها إلا بعد دوران الأفلاك، واتصال بعض الكواكب ببعض على وجوه مخصوصة في الحركات، وفي كيفيتها في الجهة والسرعة والبطء ثم بعد أن تكون الحنطة لابد من آلات الطحن والخبز، وهي لا تحصل إلا عند تولد الحديد في أرحام الجبال، ثم إن الآلات الحديدية لا يمكن إصلاحها إلا بآلات أخرى حديدية سابقة عليها، ولا بد من انتهائها إلى آلة حديدية هي أول هذه الآلات، فتأمل أنها كيف تكونت على الأشكال المخصوصة، ثم إذا حصلت تلك الآلات فانظر أنه لابد من اجتماع العناصر الأربعة، وهي الأرض والماء والهواء والنار حتى يمكن طبخ الخبز من ذلك الدقيق. فهذا هو النظر فيما تقدم على حصول هذه اللقمة.
وأما النظر فيما بعد حصولها: فتأمل في تركيب بدن الحيوان، وهو أنه تعالى كيف خلق الأبدان حتى يمكنها الانتفاع بتلك اللقمة، وأنه كيف يتضرر الحيوان بالأكل وفي أي الأعضاء تحدث تلك المضار، ولا يمكنك أن تعرف القليل من هذه الأشياء إلا بمعرفة علم التشريح وعلم الطب بالكلية، فظهر بما ذكرنا أن الانتفاع باللقمة الواحدة لا يمكن معرفته إلا بمعرفة جملة الأمور، والعقول قاصرة عن إدراك ذرة من هذه المباحث، فظهر بهذا البرهان القاهر صحة قوله تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَآ} ثم إنه تعالى قال: {إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} قيل: يظلم النعمة بإغفال شكرها كفار شديد الكفران لها. وقيل: ظلوم في الشدة يشكو ويجزع، كفار في النعمة يجمع ويمنع، والمراد من الإنسان هاهنا: الجنس، يعني أن عادة هذا الجنس هو هذا الذي ذكرناه، وهاهنا بحثان:
البحث الأول: أن الإنسان مجبول على النسيان وعلى الملالة، فإذا وجد نعمة نسيها في الحال وظلمها بترك شكرها، وإن لم ينسها فإنه في الحال يملها فيقع في كفران النعمة، وأيضاً أن نعم الله كثيرة فمتى حاول التأمل في بعضها غفل عن الباقي.
البحث الثاني: أنه تعالى قال في هذا الموضع: {إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} وقال في سورة النحل: {إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النحل: 18] ولما تأملت فيه لاحت لي فيه دقيقة كأنه يقول: إذا حصلت النعم الكثيرة فأنت الذي أخذتها وأنا الذي أعطيتها، فحصل لك عند أخذها وصفان: وهما كونك ظلوماً كفاراً، ولي وصفان عند إعطائها وهما كوني غفوراً رحيماً، والمقصود كأنه يقول: إن كنت ظلوماً فأنا غفور، وإن كنت كفاراً فأنا رحيم أعلم عجزك وقصورك فلا أقابل تقصيرك إلا بالتوفير ولا أجازي جفاء إلا بالوفاء، ونسأل الله حسن العاقبة والرحمة.

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9